{حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)} [الزخرف: 43/ 1- 8].افتتحت السورة بالأحرف الهجائية: (حم) للتنبيه على خطر ما يأتي في هذه السورة، ولتحدي العرب بالإتيان افتراء بمثل أقصر سورة من القرآن ذات الموضوع الواحد، لأنه بلغتهم ومن أصول مادة كلامهم. لذا كان الغالب بعد هذه الأحرف الكلام عن القرآن، وقد أقسم اللّه تعالى بالقرآن البيّن الواضح، الجلي المعاني، الذي أبان طريق الهدى والنور.فكلمة (المبين) إما من (أبان) أي ظهر، فلا يحتاج إلى مفعول، وإما من (بان) وهذا يحتاج إلى مفعول تقديره: المبين الهدى والشرع ونحوه.ومن أجل إفهام العرب وتدبر معانيه، جعلناه منزلا بلسان عربي فصيح واضح، لتتعقلوا آياته، فلا يعسر فهمها وإدراكها، والتعرف على أسرارها وإعجازها، وجعلناه بلسانكم لئلا يبقى لكم عذر، وهذا هو المقصود من قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فهو ترجّ بحسب معتقد البشر، فمن تدبّر الآيات يرجى منه أن يعقل ويفهم الكلام. وأم الكتاب: اللوح المحفوظ، فإنه أصل جميع الكتب السماوية، وفي هذا تشريف للقرآن وترفيع.وإن هذا القرآن عند اللّه رفيع القدر، عالي الشأن في البلاغة والإرشاد وغير ذلك، ومحكم النظم، لا لبس فيه، ولا اختلاف أو تناقض، كما جاء في آية أخرى: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 5/ 48]. وآية: {وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 4/ 82].وهل نترككم أيها العرب وغيركم من غير تذكير، ولا وعظ، ولا أمر ولا نهي، لأنكم مسرفون في الإنكار والتكذيب؟ أو أنهملكم ونبعد الذكر عنكم، ونمسك عن إنزال القرآن لكم، لأنكم تجاوزتم الحدود المعقولة في أعمالكم؟ وقوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} صفحا: مصدر، مفعول مطلق لنضرب من غير لفظه، مثل: قعدت جلوسا.ولا تعجب أيها الرسول من إعراض قومك عن رسالتك، فهذه سيرة الأولين الغابرين، فإنه لم يأتهم نبي ولا رسول إلا كانوا به يكذبون ويسخرون، كتكذيب قومك واستهزائهم بك. وقوله: {كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} ظاهرة العموم، والمراد به الخصوص، فيمن استهزءوا، وإلا فقد كان في الأولين: من لم يستهزئ. والآية وعيد لهم وتهديد بأن يصيبهم ما أصاب أشد منهم بطشا.لقد أهلكنا قوما هم أشد قوة من هؤلاء القوم المكذبين لك أيها النبي، وقد سبق إيراد مواقفهم أكثر من مرة، وعرفت سنة اللّه فيهم. فعليهم أن ينظروا في مصائر المتقدمين، ليحذروا الوقوع في مثل مصائرهم. وكلمة {مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} معناها: سنة أو سيرة أو عقوبة المتقدمين، والمعنى: سلف أمرهم وسنتهم، وصاروا عبرة للأمم.والأولون: هم الأمم الماضية كقوم نوح، وعاد وثمود وغيرهم. والمراد: أننا جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين: أن يصيبهم مثل ما أصابهم، كما جاء في آية أخرى: {فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 43/ 56].هذه حملة مركزة على قريش وأمثالهم، حيث لا عذر لهم في ترك إجابة دعوة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فقد وضحت أمامهم السّبل، وكثر تذكيرهم، وتجاوزوا الحدود في الإسراف والعصيان، وضربت لهم الأمثال، وجعلت أمامهم العبر والمواعظ، فلم يبق عندهم عذر في معارضة دعوة الإسلام، فليتهم بادروا إلى الإيمان بالله وحده، وترك الاستهزاء، وإذا لم يتعظوا وأصروا على الكفر والتكذيب، استحقوا إنزال العذاب وألوان الخزي والهوان، كما نزل بمن قبلهم من ألوان العقاب والإهلاك والتدمير بسبب كفرهم وتكذيبهم رسولهم، والعاقل: من اتعظ بغيرهم، وأقلع عن المعصية إذا شاهد عقوبة العصاة.من عجائب الصنع الإلهي:ما أحلم اللّه تعالى على عباده، وما أصبره على مخلوقاته، يخلقهم ويرزقهم وينعم عليهم، ومع ذلك يكفرون به، ويجحدون بوحدانيته، فيتنزل لمستواهم الفكري، ويقيم لهم الأدلة والبراهين الكثيرة على عظمة ذاته وقدرته، ومن أهمها إبداع مصنوعاته وعجائب مخلوقاته، وكثرة نعمه وآلائه، وإذا افتقر الإنسان أو أصيب بمصاب، لم يجد غير اللّه ملجأ، ولا سواه ملاذا، فيفرّج كربته، ويكشف أزمته أو محنته، وهذه ثمانية أدلة على وجود اللّه وتوحيده، مما يلمسه كل إنسان. ويحسّ به من مشاهدات الكون: